الأمثال الشعبية الأمثال الشعبية جزء من ثقافتنا، بل جزء من حياتنا اليومية،وارتباطنا بها أقوى من ارتباطنا بسائر أساليب البيان والتعبير الأخرى، حتى تلك التي تصنّف في الحقل الأدبي كالشعر والنثر بفنونهما المختلفة، ولا يكاد يخلو حديث لأحدنا من هذه الأمثال التي انتشرت حتى أصبحت من النسيج الثقافي في مجتمعنا، ومفردة مهمة من مفردات النسق البلاغي عندناويمكن أن نُجمل أسباب انتشار الأمثال فيما يلي:
1- الجمال : فعندما تريد تأكيد قيمة الإباء وتقول مثلاً المنيّة ولا الدنيّة)،-فإنك بينت للسامع أنك متمسك بقيمة الإباء المتضمنة في هذا المثل الضارب في القدم، والموروث عن الأجداد،- وقدمت للسامع هذه القيمة الإنسانية السامية في قالب جميل ،- إذ استبدلت بكلمة الموت كلمة المنيّة القريبة لفظاً من كلمة المُنية ،وكأنّ الموت بشرف، مُنية الرجال الشرفاء ،- ثم إنك أطربت سامعك بالموسيقى التي تموّجت في التوازن المسجوع بين المنيّة والدنيّة
2- الإيجاز: وقد قال العرب : (البلاغة في الإيجاز)،الذي يختزن الكثير من المعنى في القليل من اللفظ ،ما يسهل انتشار المثل لسهولة حفظه عند سماعه لأول مرة، ثم استخدامه من جديد، فأنت حين تقول اللي باعك بيعه)، تكون قد أفهمت سامعك معاني كثيرة منها:- أن تصرفك هو ردة فعل لا فعل ابتدائي،- وأنه جزاء لا اعتداء، - وأنه تخلى عنك لسبب مادي قبل أن تجازيه، - وأنه يمكن أن يبيع غيرك كما باعك، وغير ذلك من المعاني
3- الواقعية : لأنّ المثل عادة مستخلص من قصة واقعية حدثت فعلاً، أو قول قاله أحد أفراد القصة، إذاً، المثل من هذه الجهة عبارة عن ( دراما ) موجزة في كلمات معدودة، فأنت إذا لاحظت اتفاقاً بين اثنين متشابهين من الناس وقلت: (وافق شنٌّ طبقة)، فإنك بذلك قد استحضرت من ذاكرتك، ومن ذاكرة المجتمع قصة قديمة، لكنها واقعية، أخذت من شخصياتها شنّاً وطبقة الحقيقيين، ثم شبهت بهما هذين الاثنين في الوقت الحاضر
صورة المجتمع:
ونستطيع أن نعتمد على الأمثال التي يتناقلها أفراد المجتمع عبر الأجيال، في تكوين صورة واضحة عن ثقافة هذا المجتمع، وتاريخه، وأحوال أفراده النفسية، وطرائق التفكير عندهم، وهكذا تكتمل اللوحة المعبرة عن واقع هذا المجتمع ،لأن الأمثال في النهاية نتاج هذا المجتمع، إنها وليدة تاريخه، وقصصه، ومفاهيمه عن الحياة، وآماله ، وآلامه0
الأبعاد الدلاليّة للأمثال:
والأمثال ليست كلمات تُقال في الهواء، بل هي عصارة أفكار المجتمع، تعبر عن ثقافته ، وأوضاعه الاجتماعية، وانفعالاته النفسية، ففي الأمثال تتجلى الأبعاد التالية:
البعد الثقافي : وأعني بالثقافة هنا، مجموعة المعارف والقيم والمواقف السائدة في المجتمع، ومعلوم أن هذه الأمثال، تأخذ حيّزاً مهماً من نسيج ثقافة ومعارف هذا المجتمع، وتكون عبارة عن شواهد مسلمة ومقبولة من الأفراد على ما يجري خلاله من حوادث وقصص
فعندما يسمعني إنسان أقول : (ألف أم تبكي ولا أمي تبكي ) يتصور حتماً حقيقة الثقافة التي أتميز بها ،وحقيقة ثقافة المجتمع الذي أعيش فيه، والذي أنتج أو أخذ هذا المثل وأودعه في ذاكرتي لأبرزه عند الحاجة، يتصور أولاً أن من ثقافتنا الشفقة على الأم ، والألف هنا ليس مقصوداً بذاته، وإنما هو للتكثير، والمقصود (تبكي كل أم )، ولا تبكي أمي، ويتصور أيضاً معنى الأنانية في ثقافة المجتمع الذي ينتشر فيه هذا المثل ، لأن المهم ألا تبكي أمي بالذات، ولا يهمني طالما أن أمي لم تبك أن تبكي كل أم في هذا العالم
البعد الاجتماعي :
تتناقل الأجيال هذه الأمثال عبر التاريخ فتحفظ الذاكرة الجمعية ما يصلح لواقعها الحاضر، وتترك مالا يصلح للتداول ليقبر في معاجم الأمثال، ويكون موضوعاً للبحث والدراسة، لا للتداولوبناء على هذا فإنه يمكن دراسة التطورات الاجتماعية التي وقعت في أي مجتمع من خلال دراسة هذه الأمثال، وملاحظة ما انتخب منها للتداول، وما أودع في محله من المعاجم فخصلة الكرم التي تميز مجتمعنا نستطيع ملاحظتها من خلال إصرار الذاكرة الجمعية عندنا على حفظ وتكرار المثل عن (الكرم الحاتمي)، عبر هذه الأجيال المتلاحقة، والتي ما تزال تحفظه، وتعيده في قصص ومناسبات تتكرر مع الأيام
البعد النفسي : ويمكن أن يكون هذا أهم الأبعاد الدلالية للأمثال، لأن هذه الأمثال التي تنطبع في ذاكرة الناس، تكشف حتماً عن سيكولوجية الأفراد الذين يتداولونها، ومن المهم أن نشير هنا إلى أن الأمثال في بعدها النفسي ذات جانبين :الأول أنها تكشف عن الوضع السيكولوجي للأفراد، والثاني أنها تطبع هؤلاء الأفراد بمضمون المثل، وتدجّنهم تدريجياً حتى يصبح مفهوم المثل ودلالته من الحقائق المسلمة التي تؤسس لثقافة تسود المجتمع كثقافة (الهزيمة) مثلاً
]ولنتأمل الآن مجموعة من الأمثال التي انتشرت في مجتمعنا الذي لا أعرف عنه إلا الشجاعة والإقدام، وأنبّه أولاً إلى أنه يمكن حمل بعضها على معنى مقبول، وذلك حين تُقال في الموقف المناسب، ولكننا نلاحظ أنها باتت تعمم فتستخدم في الموقف الذي يقتضي الثبات:
1- ( الهزيمة ثلثا المرجلة) لا أدري كيف يمكن قبول هذا المثل ، وكيف انقلب الشيء إلى ضده، فصارت الهزيمة من المرجلة، بل أعطيت مقداراً من الكيل، أو الوزن، لتتحول الهزيمة إلى كومة لها حجم مادي، وقد يقال أن هذا المثل للمزاح أو لظروف خاصة ، كما لو كنت وحيداً، وواجهتك عصابة خطرة، ولكن المثل مطلق غير محدد بحالة خاصة، وعلى كل حال هو تعبير لا يُستساغ، وشتان بينه وبين قولنا الانحناء أمام العاصفة)
2 - (ألف كلمة جبان ولا كلمة الله يرحمه ): ودلالة المثل واضحة، فهو يرسّخ قيمة (الهزيمة) في الذهنية العامة، ويختار أعلى رقم عرفته اللغة العربية (الألف )، كما أنه يختار أبعد الصفات عن الإنسان العربي ( الجبن)، ويجعلها أفضل من الموت، ومن الصعب تصور حالة يكون فيها الجبان معذوراً لأنه حينئذ لا يسمّى جباناً0
3 - (لا تنام بين القبور وتشوف منامات وحشة )، وهو يتضمن نوعين من الهزيمة ،هزيمة أمام المنطق، لأن المنطق يقول أن الموتى موتى لا يضرون ولا ينفعون أصلاً، وهزيمة التخاذل أمام المواقف التي ينبغي أن يواجهها الإنسان، لأن الهرب لا يلغيها، وربما كان لهذا المثل ما يسوّغه من الحالات الخاصة، و
4- (فخار يكسّر بعضه )، عندما تحدث مشكلة عند صديق، أو جار، أو جماعة تهمني، فأنا أشبههم بشيء سهل الانكسار ذي قيمة زهيدة، هو الفخار، منقول للامانة